نستكمل الحلقة الأخيرة فى قراءة رواية الراحل محمد ناجى «رجل أبله.. امرأة تافهة» التى أتمنى أن تكون فاتحة شهية لك عزيزى القارئ للدخول إلى عالم هذا الساحر الجميل، مشوار فقط لمكتبة دار الهلال ستستطيع شراء كل رواياته، الوقت أمامك ما زال للإمساك بخيط الضوء المراوغ الساحر، وما لم تدركه كله فى وقته لا تتركه كله. حاول بطل رواية «رجل أبله.. امرأة تافهة» لمحمد ناجى أن يتغلّب على اضطرابه الداخلى وأن ينظّم إيقاعه الخاص بالتدريب على الصفير، إنه ونس ودفء فى زمن الوحدة والصقيع بعد موت أستاذه المناضل، صديق المعتقل، تذكّر صديقه القديم، طبيباً حالياً وشاعراً سابقاً، من أصحاب الفرص الضائعة والندم المزمن، يصفه المؤلف بأنه إنسان مسكون بالبدائل، ففى كلية الطب كان حماس السياسة بديلاً لبلادته فى الدراسة، وكان قلق الشعر بديلاً للثبات على المبدأ السياسى، والعيادة بديل البيت، والطب البديل بديلاً للطب التقليدى.. وهلم جراً. إنه الطبيب الذى احتضنه فى غربة القاهرة، وخصص له أبوه، المعلم الذى لا يعرف فى حياته إلا الأرقام، شقته فى المنيل ليسكن فيها، وبعد موت والده، ناظر المحطة، أصبحت عائلة الطبيب هى عائلته الثانية، يتحدث مع عائلها الذى صقلته السنون ويتلقى منه جرعات حكمة مكثفة. قبل أن يغادر الرجل العجوز الدنيا طلب أن يرى رجلنا الأبله وأفصح له بالسر، الكل يعود لرقم أصل الحياة الواحد، وظل اجترار الذكريات ملحاً يومياً يوضع فى جراح الشجن والتأسى على ما فات. يتذكّر هو وصديقه الطبيب أصدقاء الأمس الذين وصفهم وصفاً عبقرياً فقال عنهم: عباقرة اختفوا فى الزحام، ثروات بشرية تبدّدت، مصانع عملاقة قصفتها تفاصيل الحياة، كان أهمهم الطبيب الشاعر، الذى تبدّدت موهبته على جدار الألفة مع الواقع، كان يفضفض إليه ليهرب من المرأة التافهة التى لا تفهم رفضه لكتابة مقال بديل أو نفاق مدير التحرير، ولكنه يهرب منها إليها، إنها اقتحمت تفاصيل حياته ولا فكاك منها إلا بالانتحار. بعد الوصال الهاتفى بدأ دور الوصال الجسدى، وكانت رحلة القناطر المفاجئة هى الجسر الذى عبرت عليه المرأة إلى قلب رجلنا صاحب القضايا التى تجاوزها الزمن، وطلبها للزواج ولكن كخادمة فى الواقع وزوجة على الورق، كان الزواج عرفياً، وكان الشاهد الأول شقيقها الموسيقار الفاشل الذى وقفت موهبته عند حدود العزف النشاز على أورج ابنه المسروق، وبعدها قرر أن يكون الزواج دافعاً لتأليف كتاب عن بهلوانات العالم الثالث. وصف المؤلف سعادة رجل الرواية بقوله: كان سعيداً بالقدر الذى يمكن أن تنتزعه السعادة من قلب رجل مثله زحمته التجارب، فرحاً بالقدر الذى يمكن أن تسمح به تجاعيد وجهه، رشيقاً بالقدر الذى يناسب رجلاً يتجاهل ورم ساقيه، وأراد الرجل ردّ الجميل إلى المرأة فذهب إلى شركة التأمين حتى لا يجعلها فى مهب الريح بعد موته، ولكن الطبيب رفض أن يوقع بالموافقة وقال له إن الحالة متقدمة والكبد متليف. قرر الرجل التمادى فى نزوته الشهرية مع أصدقائه فى مصر الجديدة، يشرب ويدخن معهم غير عابئ بخطوات شبح الموت وهو يقترب من جسده العليل، أطلق على نفسه فى لحظة تجلٍّ لقب «ذو القرنين»، لأنه عاش خلال قرنين!! وقرر الاحتفال بعيد ميلاده الأخير بتبديد كل مدخراته، ذهب إلى الإسكندرية وبعدها حاول أن يكتب وفشل، غافلها وأفرط فى الشرب والتدخين وكأنه فى بروفة انتحار، تقيأ دماً وشاهد من خلال غمامة المرض دبلتها الفضية، وعدها بأن يشترى لها دبلة بدلاً من التى باعتها، سألته: هل ستكتب الاسم والتاريخ مرة أخرى، فقال لها: دائماً تهتمين بالتفاصيل التافهة. فردت عليه: يا أبله، هذه هى الحياة. وتنتهى الرواية بهذا الرد الصادم المدهش الذى من فرط عاديته نخشى البوح به حتى لا تضيع معانٍ كنا نظنها كبيرة ومهمة.